فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (5):

قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقدم من التخويف والإطماع ما هو مظنة لإقبالهم ورهبهم على التولي بخصوصه، فكان موضع أن يقال: هل أقبلوا؟ فقيل: لا قال مبينًا أن التولي باطنًا كالتوالي ظاهرًا لأن الباطن هو العمدة، مؤكدًا لأنه امر لا يكاد أن يصدق، والتأكيد أقعد في تبكيتهم: {ألا إنهم} أي الكفار المعاندين: {يثنون صدورهم} أي يطوونها وينحرفون عن الحق على غل من غيرِ إقبال لأن من أقبل على الشيء عليه بصدره: {ليستخفوا منه} أي يريدون أن يوجدوا إخفاء سرهم على غاية ما يكون من أمره.
فإن كان مرادهم بالثني الاستتار من الله تعالى فالأمر في عود الضمير إليه سبحانه واضح، وإن كان من النبي صلى الله عليه وسلم فالاستخفاء منه استخفاء ممن أرسله، ثم أعلم أن ذلك غير مغن عنهم لأنه يعلم سرهم وعلنهم في أخفى أحوالهم عندهم، وهو حين استغشاهم ثيابهم، فيغطون الوجوه التي تستقر عن بعض ما في القلوب للمتوسمين فقال: {ألا حين يستغشون ثيابهم} أي يوجدون غشيانها أي تغطيتها لرؤوسهم، لاستخفاء كراهية لسماع كلام الله وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم: {يعلم ما يسرون} أي يوقعون إسراره في أيّ وقت كان ومن أيّ نوع كان من غير بطء لتدبر أو تأمل، ولما لم يكن بين علم السر والعلن ملازمة لاختصاص العلن بما يكون لغيبة أو اختلاف بأصوات ولفظ أو اختلاف لغة ونحو ذلك قال تصريحًا: {وما يعلنون} أي يوقعون إعلانه لا تفاوت في علمه بين إسرار وإعلان، فلا وجه لاستخفائهم نفاقًا، فإن سوق نفاقهم غير نافق عنده سبحانه.
ثم علله بما هو أدق من ذلك كله مع شموله للنوعين فقال: {إنه عليم} أي بالغ العلم جدًا: {بذات الصدور} أي بضمائر قلوبهم التي في دواخل صدورهم التي يثنونها من قبل أن يقع لهم إضمارها، بل من قبل أن يخلقهم؛ وأصل الثني العطف، ومنه الاثنان- لعطف أحدهما على الآخر، والثناء- لعطف المناقب في المدح.
ولهذا لما قال العبد في الفاتحة: {الرحمن الرحيم} بعد الحمد قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي- كما في حديث: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» والاستثناء- لعطف الثاني على الأول بالاستخراج منه؛ والاستخفاء: طلب خفاء الشيء. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}
اعلم أنه تعالى لما قال: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} يعني عن عبادته وطاعته: {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] بين بعده أن التولي عن ذلك باطنًا كالتولي عنه ظاهرًا فقال: {أَلاَ إِنَّهُمْ} يعني الكفار من قوم محمد صلى الله عليه وسلم يثنون صدورهم ليستخفوا منه.
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار شيئين: الأول: أنهم يثنون صدورهم يقال: ثنيت الشيء إذا عطفته وطويته، وفي الآية وجهان:
الوجه الأول: روي أن طائفة من المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأرسلنا ستورنا، واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد، فكيف يعلم بنا؟ وعلى هذا التقدير: كان قوله: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} كناية عن النفاق، فكأنه قيل: يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى، ثم نبه بقوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} على أنهم يستخفون منه حين يستغشون ثيابهم.
الوجه الثاني: روي أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه، والتقدير كأنه قيل: إنهم يتصرفون عنه ليستخفوا منه حين يستغشون ثيابهم، لئلا يسمعوا كلام رسول الله وما يتلو من القرآن، وليقولوا في أنفسهم ما يشتهون من الطعن.
وقوله: {ألا} للتنبيه، فنبه أولًا على أنهم ينصرفوا عنه ليستخفوا ثم كرر كلمة: {ألا} للتنبيه على ذكر الاستخفاء لينبه على وقت استخفائهم، وهو حين يستغشون ثيابهم، كأنه قيل: ألا إنهم ينصرفون عنه ليستخفوا من الله، ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم.
ثم ذكر أنه لا فائدة لهم في استخفائهم بقوله: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {أَلاَ إنَّهُمُ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ}
فيه خمسة أقاويل:
أحدها: يثنون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله تعالى، قاله مجاهد. الثاني: يثنونها على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ليخفوها عنه، قاله الفراء والزجاج.
الثالث: يثنونها على ما أضمروه من حديث النفس ليخفوه عن الناس، قاله الحسن. الرابع: أن المنافقين كانوا إذا مرّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم غطوا رؤوسهم وثنوا صدورهم ليستخفوا منه فلا يعرفهم، قاله أبو رزين.
الخامس: أن رجلًا قال إذا أغلقت بابي وضربت ستري وتغشيت ثوبي وثنيت صدري فمن يعلم بي؟ فأعلمهم الله تعالى أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون.
{أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمُ} يعني يلبسون ثيابهم ويتغطون بها، ومنه قول الخنساء:
أرعى النجوم وما كُلّفتُ رعيتها ** وتارةً أتغشّى فضل أطماري

وفي المراد ب: {حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أربعة أقاويل:
أحدها: الليل يقصدون فيه إخفاء أسرارهم فيما يثنون صدورهم عليه. والله تعالى لا يخفى عليه ما يسرونه في الليل ولا ما يخفونه في صدروهم، فكنى عن الليل باستغشاء ثيابهم لأنهم يتغطون بظلمته كما يتغطون إذا استغشوا ثيابهم.
الثاني: أن قومًا من الكفار كانوا لشدة بغضتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستغشون ثيابهم يغطون بها وجوههم ويصمون بها آذنهم حتى لا يروا شخصه ولا يسمعوا كلامه، وهو معنى قول قتادة.
الثالث: أن قومًا من المنافقين كانوا يظهرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم أنهم على طاعته ومحبته، وتشتمل قلوبهم على بغضه ومعصيته، فجعل ما تشتمل عليه قلوبهم كالمستغشي بثيابه.
الرابع: أن قومًا من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء، فبين الله تعالى أن المنسك ما اشتملت قلوبهم عليه من معتقد وما أظهروه من قول وعمل.
ثم بيَّن ذلك فقال: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ما يسرون في قلوبهم وما يعلنون بأفواههم.
الثاني: ما يسرون من الإيمان وما يعلنون من العبادات.
الثالث: ما يسرون من عمل الليل وما يعلنون من عمل النهار، قاله ابن عباس.
{إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قيل بأسرار الصدور. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق الثقفي. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ألا إِنهم يثنون صدورهم}
في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وكان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف إِنه ليحبّه، ويضمر خلاف ما يُظهر له، فنزلت فيه هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في ناس كانوا يستحيون أن يُفضوا إِلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء، فنزلت فيهم هذه الآية رواه محمد بن عباد عن ابن عباس.
والثالث: أنها نزلت في بعض المنافقين، كان إِذا مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه لئلا يراه رسول الله، قاله عبد الله بن شداد.
والرابع: أن طائفة من المشركين قالوا: إِذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، كيف يعلم بنا؟ فأخبر الله عما كتموا، ذكر زجاج.
والخامس: أنها نزلت في قوم كانوا لشدة عداوتهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إِذا سمعوا منه القرآن حنَوا صدورهم، ونكسوا رؤوسهم، وتغشوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: {يثنون صدورهم} يقال: ثنيت الشيء: إِذا عطفته وطويته.
وفي معنى الكلام خمسة أقوال:
أحدها: يكتمون ما فيها من العداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: يثنون صدورهم على الكفر، قاله مجاهد.
والثالث: يحنونها لئلا يسمعوا كتاب الله، قاله قتادة.
والرابع: يثنونها إِذا ناجى بعضهم بعضًا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد.
والخامس: يثنونها حياءً من الله تعالى، وهو يخرَّج على ما حكينا عن ابن عباس.
قال ابن الأنباري: وكان ابن عباس يقرؤها {ألا إِنهم تَثْنَوْني صدورُهم} وفسرها أن ناسًا كانوا يستحيون أن يُفضوا إِلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء.
فَتَثْنَوْنِي: تفْعَوْعِلُ، وهو فعل للصدور، معناه: المبالغة في تثنّي الصدور، كما تقول العرب: احلولى الشيء، يحلَولي: إِذا بالغوا في وصفه بالحلاوة، قال عنترة:
ألا قَاتَلَ اللهُ الطُّلُولَ البَوَالِيَا ** وقَاتَلَ ذِكْرَاكَ السنينَ الخَوَالِيَا

وقَوْلَكَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لاَ تَنَالُهُ ** إِذا ما هُوَ احْلَوْلَى ألا لَيْتَ ذا ليا

فعلى هذا القول، هو في حق المؤمنين، وعلى بقية الأقوال، هو في حق المنافقين.
وقد خُرِّج من هذه الأقوال في معنى: {يثنون صدورهم} قولان:
أحدهما: أنه حقيقة في الصدور.
والثاني: أنه كتمان ما فيها.
قوله تعالى: {ليستخفوا منه} في هاء {منه} قولان:
أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى.
والثاني: إِلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {ألا حين يستغشون ثيابهم} قال أبو عبيدة: العرب تدخل {ألا} توكيدًا وإِيجابًا وتنبيهًا.
قال ابن قتيبة: {يستغشون ثيابهم} أي: يتغشَّونها ويستترون بها.
قال قتادة: أخفى ما يكون ابن آدم، إِذا حنى ظهره، واستغشى ثيابه، وأضمر همَّه في نفسه.
قال ابن الأنباري: أعلم الله أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهراتهم.
قوله تعالى: {إِنه عليم بذات الصدور} وقد شرحناه في [آل عمران: 119]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ}
أخبر عن معاداة المشركين للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويظنون أنه تخفى على الله أحوالهم.
{يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي يطوونها على عداوة المسلمين ففيه هذا الحذف، قال ابن عباس: يخفون ما في صدورهم من الشَّحناء والعداوة، ويظهرون خلافه.
نزلت في الأخنس بن شِريق، وكان رجلًا حُلو الكلام حُلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء.
وقال مجاهد: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} شكًّا وامتراء.
وقال الحسن: يثنونها على ما فيها من الكفر.
وقيل: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثَنَى صدره وظهره، وطأطأ رأسه وغطّى وجهه، لكيلا يراه النبيّ صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان؛ حكى معناه عن عبد الله بن شدّاد فالهاء في: {مِنْهُ} تعود على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: قال المنافقون إذا غلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثَنَينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ فنزلت الآية.
وقيل: إن قومًا من المسلمين كانوا يَتَنَسَّكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء، فبيّن الله تعالى أن التَّنَسك ما اشتملت عليه قلوبهم من معتقد، وأظهروه من قول وعمل.
وروى ابن جرير عن محمد بن عبّاد بن جعفر قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: {أَلاَ إنَهُمْ تَثْنَوني صُدُورُهُمْ لْيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} قال: كانوا لا يجامعون النساء، ولا يأتون الغائط وهم يُفضون إلى السماء، فنزلت هذه الآية.
وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس: {أَلاَ إنَّهُمْ تَثْنَوِي صُدُورُهُمْ} بغير نون بعد الواو، في وزن تنطوي؛ ومعنى {تَثنوِي} والقراءتين الأخريين متقارب؛ لأنها لا تَثْنوِي حتى يَثْنوها. وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض يسارّه في الطّعن على المسلمين، وبلغ من جهلهم أن توهموا أن ذلك يخفى على الله تعالى.
{لِيَسْتَخْفُوا} أي ليتواروا عنه؛ أي عن محمد أو عن الله.
{أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي يُغطُّون رؤوسهم بثيابهم. قال قَتَادة: أخفى ما يكون العبد إذا حَنَى ظهره، واستغشى ثوبه، وأضمر في نفسه هَمّه. اهـ.